سورة الروم - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


الضر: الشدة، من فقر، أو مرض، أو قحط، أو غير ذلك؛ والرحمة: الخلاص من ذلك الضر. {دعوا ربهم}: أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع، وإذا خلصهم من ذلك الضر، أشرك فريق ممن خلص، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام. قال ابن عطية: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين، إذ جاءهم فرج بعد شدة، علقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، أو بغير ذلك، ففيه قلة شكر الله، ويسمى مجازاً. وقال أبو عبد الله الرازي: يقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً، فإنه شرك خفي. انتهى. و{إذا فريق}: جواب {إذا أذاقهم}، الأولى شرطية، والثانية للمفاجأة، وتقدم نظيره، وجاء هنا فريق، لأن قوله: {وإذا مس الناس} عام للمؤمن والكافر، فلا يشرك إلا الكافر. وضر هنا مطلق، وفي آخر العنكبوت {إذا هم يشركون} لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام، والضر هناك معين، وهو ما يتخوف من ركوب البحر. {إذا هم}: أي ركاب البحر عبدة الأصنام، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده. واللام في {ليكفروا} لام كي، أو لام الأمر للتهديد، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت.
وقرأ الجمهور: {فتمتعوا فسوف تعلمون}، بالتاء فيهما. وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنياً للمفعول، وهو معطوف على {ليكفروا}. فسوف يعلمون: بالياء، على التهديد لهم. وعن أبي العالية: فيتمتعوا، بياء قبل التاء، عطف أيضاً على {ليكفروا}، أي لتطول أعمارهم على الكفر؛ وعنه وعن عبد الله: فليتمتعوا. وقال هارون في مصحف عبد الله: يمتعوا. {أم أنزلنا}، أم: بمعنى بل، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ. والسلطان: البرهان، من كتاب أو نحوه. {فهو يتكلم}: أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم، والتكلم مجاز لقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} وهو يتكلم: جواب للاستفهام الذي تضمنه أم، كأنه قال: بل أنزلنا عليهم سلطاناً، أي برهاناً شاهداً لكم بالشرك، فهو يشهد بصحة ذلك، وإن قدر ذا سلطان، أي ملكاً ذا برهان، كان التكلم حقيقة.
{وإذا أذقنا الناس رحمة}: أي نعمة، من مطر، أو سعة، أو صحة. {وإن تصبهم سيئة}: أي بلاء، من حدث، أو ضيق، أو مرض. {بما قدمت أيديهم من} المعاصي. {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء. و{إذا هم} جواب: {وإن تصبهم}، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جواباً للشرط.
وحين ذكر إذاقة الرحمة، لم يذكر سببها، وهو زيادة الإحسان والتفضل. وحين ذكر إصابة السيئة، ذكر سببها، وهو العصيان، ليتحقق بدله. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض، فينبغي أن لا يقنط، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء، والشكر في النعماء، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها، حتى تعود إليه رحمة ربه.
ومناسبة {فآت ذا القربى} لما قبله: أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض، وجعل في ذلك آية للمؤمن، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج، لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال، وصرفه إلى من يقرب منه من حج، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل. وقال الحسن: هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم، {والمسكين وابن السبيل}. وقيل: للرسول، عليه السلام. وذو القربى: بنو هاشم وبنو المطلب، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء. وقال الحسن: حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما. واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. أثبت تعالى لذي القربى حقاً، وللمسكين وابن السبيل حقهما.
والسورة مكية، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمواساة. وللاهتمام بذي القربى، قدم على المسكين وابن السبيل، لأن بره صدقة وصلة. {ذلك}: أي الإيتاء، {خير}: أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره. ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال؛ {وما آتيتم} أكلة الربو، ليزيد ويزكو في المال، فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه لقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} قال السدّي: نزلت في ربا ثقيف، كانوا يعملون بالربا، ويعمله فيهم قريش. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وطاوس: هذه الآية نزلت في هبات، للثواب. وقال ابن عطية: وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة، كالسلم وغيره، فهو وإن كان لا إثم فيه، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله. وقال ابن عباس أيضاً، والنخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي قريباً من هذا وهو: أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي أيضاً قريباً من هذا وهو: أن لا يربو عند الله، والظاهر القول الأول، وهو النهي عن الربا. وقرأ الجمهور: {وما آتيتم}، الأول بمد الهمزة، أي وما أعطيتم؛ وابن كثير: بقصرها، أي وما جئتم.
وقرأ الجمهور: ليربو، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا؛ وابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي، ونافع، وأبو حيوة: بالتاء مضمومة، وإسناد الفعل إليهم. وقرأ أبو مالك: ليربوها، بضمير المؤنث.
والمضعف: ذو أضعاف في الأجر. قال الفراء: هم أصحاب المضاعفة، كما تقول: هو مسمن، أي صاحب إبل سمان، ومعطش: أي صاحب إبل عطشى. وقرأ أبي: {المضعفون}، بفتح العين، اسم مفعول. وقال الزمخشري: {فأولئك هم المضعفون}، التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، والمعنى: المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذاً، والأول أملأ بالفائدة: انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر، لأن اسم الشرط ليس بظرف، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط.


كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم. و{الله الذي خلقكم}: مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {الذي خلقكم} صفة للمبتدأ، والخبر: {هل من شركائكم}؛ وقوله: {من ذلكم} هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه: من أفعاله. انتهى. والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا كان أشير به إلى المبتدأ. وأما {ذلكم} هنا فليس إشارة إلى المبتدأ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى، وخالفه الناس، وذلك في قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن} قال التقدير: يتربصن أزواجهم، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين، فحصل به الربط، كذلك قدر الزمخشري {من ذلكم}: من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ. وقال الزمخشري أيضاً: هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئاً، قط من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غير موضعها، لأنها ظرف للماضي، وهنا جعلها معمولة ليفعل. وقال الزمخشري أيضاً: ومن الأولى والثانية، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم؛ فمن الأولى للتبعيض، والجار والمجرور خبر المبتدأ؛ ومن يفعل هو المبتدأ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام، التقدير: من يفعل شيئاً من ذلكم، أي من تلك الأفعال.
وقرأ الجمهور: {يشركون}، بياء الغيبة؛ والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر. وقال الحسن: وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات، ونزول رزايا، وحدوث فتن، وتقلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر. وقال ابن عباس: {الفساد في البر}، القطاع فتسده. وقال مجاهد: {في البر}، بقتل أحد بني آدم لأخيه، وفي البحر: بأخذ السفن غصباً، وعنه أيضاً: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار. وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور، والبحر: المدن، جمع بحرة، ومنه: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ويؤيد هذا قراءة عكرمة. والبحور بالجمع، ورويت عن ابن عباس، وكان قد ظهر الفساد براً وبحراً وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الظلم عم الأرض، فأظهر الله به الدين، وأزال الفساد، وأخمده صلى الله عليه وسلم. وقال النحاس: فيه قولان، أحدهما: ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر، أي في مدن البحر، مثل: {واسئل القرية} أي ظهر قلة العشب، وغلاً السعر. والثاني: ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز، وقيل: إذا قل المطر قل الغوص، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس: إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
{بما كسبت أيدي الناس}: أي بسبب معاصيهم وذنوبهم. {ليذيقهم}: أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة. {لعلهم يرجعون} عما هم فيه. وقال ابن عطية: {بما كسبت}: جزاء ما كسبت، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر، وهو نفس الفساد الظاهر. وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمرو: لنذيقهم، بالنون؛ والجمهور: بالياء، ثم أمرهم بالمسير في الأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. {كان أكثرهم مشركين}: أهلكهم كلهم بسبب الشرك، وقوم بسبب المعاصي، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي، كما يهلك بالشرك، كأصحاب السبت. أو أهلكهم كلهم، المشرك والمؤمن، كقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وأهلكهم كلهم، وهم كفار، فأكثرهم مشركون، وبعضهم معطل. وحين ذكر امتنانه قال: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم}، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق. وحين ذكر خذلانهم بالطغيان، بسبب البقاء بإظهار الفساد، ثم بسبب الوجود بالإهلاك. {من قبل أن يأتي يوم}: يوم القيامة، وفيه تحذير يعم الناس، {لا مرد له من الله}، المرد: مصدر رد، ومن الله: يحتمل أن يتعلق بيأتي، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله: {فلا يستطيعون ردها} ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به، ولا رد له من جهته. {يومئذ}: أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم. {يصدعون}: يتفرقون، فريق في الجنة، وفريق في السعير. يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
ثم ذكر حالتي المتفرقين: {من كفر فعليه كفره}: أي جزاء كفره، وعبر عن حالة الكافر بعليه، وهي تدل على الفعل والمشقة، وعن حال المؤمن بقوله: {فلأنفسهم}، باللام التي هي لام الملك. و{يمهدون}: يوطئون، وهي استعارة من الفرش، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة. وقال مجاهد: هو التمهيد للقبر. وقال الزمخشري: وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.
انتهى. وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} واللام في {ليجزي}، قال الزمخشري: متعلق بيمهدون، تعليل له وتكرير {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله: {إنه لا يحب الكافرين}، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. وقال ابن عطية: ليجزي متعلق بيصدعون، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى: {من كفر}، {ومن عمل صالحاً}. انتهى. ويكون قسم {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفاً تقديره: كأنه قال: والكافرون بعدله، ودل على حذف هذا القسيم قوله: {إنه لا يحب الكافرين}. ومعنى نفي الحب هنا: أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته، ولا يرضى الكفر لهم ديناً. وقال الزمخشري: {من فضله}: بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو أراد من عطائه، وهو ثوابه، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.


لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك، ذكر ظهور الصلاح. والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر، لأنها متقدمة. والمبشرات: رياح الرحمة، الجنوب والشمال والصبا، وأما الدبور، فريح العذاب، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام، وهو التبشير. وقرأ الأعمش: الريح، مفرداً، وأراد معنى الجمع، ولذلك قرأ: {مبشرات}. ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، ويتبعه حصول الخصب، والريح الذي معه الهبوب، وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك. {وليذيقكم}: عطف على معنى مبشرات، فالعامل أن يرسل، ويكون عطفاً على التوهم، كأنه قيل: ليبشروكم، والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل. تقول: أهن زيد أسيأ وأكرم زيداً العالم، تريد لإساءته ولعلمه. وقيل: ما يتعلق به اللام محذوف، أي ولكنا أرسلناها. وقيل: الواو في وليذيقكم زائدة. و{بأمره}: أي بأمر الله، يعني أن جريانها، لما كان مسنداً إليها، أخبر أنه بأمره تعالى. {من فضله}: مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر، ومن غنائم أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، ولما كان تعالى بين الأصلين: المبدأ والمعاد، بين ذكر الأصل الثالث، وهو النبوّة؛ وفي الكلام حذف تقديره: وآمن به بعض وكذب بعض، {فانتقمنا من الذين أجرموا}.
وفي قوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}: تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر، إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم، وتكريم للمؤمنين، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن {حقاً} خبر كان، و{نصر المؤمنين} الاسم، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء، إذ هو محط الفائدة. وقال ابن عطية: وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم، ثم استأنف جملة من قوله: {علينا نصر المؤمنين}، وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية. وقال الزمخشري: وقد يوقف على {حقاً}، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقاً، ثم يبتدأ علينا {نصر المؤمنين}. انتهى. وفي الوقف على {وكان حقاً} بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً، بل عدلاً، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث.
{الله الذي يرسل الرياح}، هذا متعلق بقوله: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}، والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة.
أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء، وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماء منه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها. والبسط: نشرها في الآفاق، والكسف: القطع. وتقدم الكلام على قوله: {فترى الودق يخرج من خلاله}، وذكر الخلاف في {كسفاً} وحاله من جهة القراء. والضمير في: {من خلاله}، الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل: ويحتمل أن يعود على {كسفاً} في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء: سمت السماء، كقوله: {وفرعها في السماء} {فإذا أصاب به من يشاء}: أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار، ولم يتأخر سرورهم. وقال الأخفش: {من قبله} تأكيد لقوله: {من قبل أن ينزل عليهم}.
وقال ابن عطية: أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: {من قبل أن ينزل عليهم} يحتمل الفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله: {من قبل} بمعنى: أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مقيد. وقال الزمخشري: وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى. وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: {من قبله} غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط. وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل، من قبل المطر. انتهى. وصار من قبل إنزال المطر: من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح، فضلاً عن القرآن. وقيل: التقدير: من قبل تنزيل الغيث: من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسبب المطر؛ ودل على ذلك قوله: {فرأوه مصفراً}، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم، لأن {من قبل أن ينزل عليهم} متعلق بقوله: {لمبلسين}. ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل. وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيه البدل، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال الإنزال على الزرع، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال، فكأن الإنزال مشتمل عليه، وهذا على مذهب من يقول: الأول يشتمل على الثاني. وقال المبرد: الثاني السحاب، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين. وقال علي بن عيسى: من قبل الإرسال. وقال الكرماني: ومن قبل الاستبشار، لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار.
انتهى. ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف، أمكن، لكن في حذف حرف العطف خلاف، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر: إلى أثر، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع؛ وسلام: بكسر الهمزة وإسكان الثاء. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: تحيي، بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة. وقال صاحب اللوامح: وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها، فاكتسب التأنيث منها، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه، أو من سببه. وأما إذا كان أجنبياً، فلا يجوز بحال. انتهى. وقرأ زيد بن علي: نحيي، بنون العظمة؛ والجمهور: {يحيي}، بياء الغيبة، والضمير لله، ويدل عليه قراءة {آثار} بالجمع، وقيل: يعود على أثر في قراءة من أفرد. وقال ابن جني: {كيف يحيي} جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى، كأنه قال: محيياً، وهذا فيه نظر. {إن ذلك}: أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم. وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى.
{ولئن أرسلنا ريحاً}: أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم، أنه بعد الاستبشار بالمطر، بعث الله ريحاً، فاصفر بها النبات. لظلوا يكفرون قلقاً منهم، والريح التي تصفر النبات صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيماً، والحرور جنب الشمال إذا عصفت. والضمير في {فرأوه} عائد على ما يفهم من سياق الكلام، وهو النبات. وقيل: إلى الأثر، لأن الرحمة هي الغيث، وأثرها هو النبات. ومن قرأ: آثار، بالجمع، رجع الضمير إلى آثار الرحمة، وهو النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. وقال ابن عيسى: الضمير في {فرأوه} عائد على السحاب، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل: على الريح، وهذان قولان ضعيفان. وقرأ صباح بن حبيش: مصفاراً، بألف بعد الفاء. واللام في {ولئن} مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره: ليظلن، ونظيره قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار، وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في {من بعده} عائد على الاصفرار، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته. وتقدم الكلام على قوله: {فإنك لا تسمع الموتى} إلى قوله: {فهم مسلمون} في أواخر النمل، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: {فإنك}.

1 | 2 | 3